فصل: سئل عن دَيْن سلم حل فلم يكن عند المستسلف وفاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 /وَقَالَ ـ رحَمهُ اللّه‏:‏

فصل

‏[‏عوض المثل‏]‏ كثير الدوران في كلام العلماء ـ وهو أمر لابد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم‏:‏ قيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، ونحو ذلك‏.‏ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أعتق شركا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، لا وكس، ولا شَطَط، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد‏)‏‏.‏ وفي حديث أنه قضي في بَرْوَع بنت واشق بمهر مثلها، لا وَكْس، ولا شطط ـ يحتاج اليه فيما يضمن بالإتلاف من النفوس، والأموال، والأبضاع، والمنافع، وما يضمن بالمثل من الأموال والمنافع، وبعض النفوس‏.‏ وما يضمن بالعقود الفاسدة، والصحيحة أيضا؛ لأجل الأرش في النفوس والأموال‏.‏

/ ويحتاج اليه في المعاوضة للغير، مثل معاوضة الولي للمسلمين، ولليتيم، وللوقف وغيرهم‏.‏ ومعاوضة الوكيل كالوكيل في المعاوضة، والشريك والمضارب، ومعاوضة من تعلق بماله حق الغير، كالمريض‏.‏ ويحتاج اليه فيما يجب شراؤه للّه تعالى، كماء الطهارة، وسترة الصلاة، وآلات الحج، أو للآدميين؛ كالمعاوضة الواجبة مثل‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ومـداره على القياس والاعتبار للشيء بمثلـه‏.‏ وهو نفس العدل، ونفس العرف الداخل في قوله‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ وهذا متفق عليه بين المسلمين، بل بين أهل الأرض؛ فإنه اعتبار في أعيان الأحكام لا في أنواعها‏.‏

وهو من معني القسط الذي أرسل اللّه له الرسل، وأنزل له الكتب‏.‏ وهو مقابلة الحسنة بمثلها، والسيئة بمثلها،كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 86‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏‏[‏الشوري‏:‏ 40‏]‏ ،وقال‏:‏‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ ‏.‏

لكن مقابلة الحسنة بمثلها عدل واجب، والزيادة إحسان مستحب،/ والنقص ظلم محرم، ومقابلة السيئة بمثلها عدل جائز، والزيادة محرم، والنقص إحسان مستحب، فالظلم للظالم، والعدل للمقتصد، والإحسان المستحب للسابق بالخيرات‏.‏

والأمة ثلاثة‏:‏ ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات‏.‏

وكثيرًا ما يشتبه على الفقهاء ويتنازعون في حقيقة عوض المثل في جنسه ومقداره، في كثير من الصور؛ لأن ذلك يختلف لاختلاف الأمكنة والأزمنة، والأحوال والأعواض والمعوضات، والمتعاوضين‏.‏ فنقول‏:‏

‏[‏عوض المثل‏]‏ هو مثل المسمي في العرف، وهو الذي يقال له‏:‏ السعر والعادة، فإن المسمي في العقود نوعان‏:‏ نوع اعتاده الناس وعرفوه، فهو العوض المعروف المعتاد‏.‏ ونوع نادر؛ لفرط رغبة، أو مضارة، أو غيرهما‏.‏ ويقال فيه‏:‏ ثمن المثل، ويقال فيه‏:‏ المثل؛ لأنه بقدر مثل العين، ثم يقوم بثمن مثلها‏.‏ فالأصل فيه اختيار الآدميين، وإرادتهم ورغبتهم‏.‏

ولهذا قال كثير من العلماء‏:‏ قيمة المثل ما يساوي الشيء في نفوس ذوي الرغبات‏.‏ ولابد أن يقال‏:‏ في الأمر المعتاد‏.‏ فالأصل فيه إرادة الناس ورغبتهم‏.‏ وقد علم بالعقول أن حكم الشيء حكم مثله، وهذا من العدل والقياس والاعتبار، وضرب المثل الذي فطر اللّه عباده عليه،/ فإذا عرف أن إرادتهم المعروفة للشيء بمقدار علم أن ذلك ثمن مثله، وهو قيمته وقيمة مثله، لكن إن كانت تلك الرغبة والإرادة لغرض محرم؛ كصنعة الأصنام، والصلبان‏.‏ ونحو ذلك‏.‏ كان ذلك العوض محرما في الشرع‏.‏

فعوض المثل في الشريعة يعتبر بالمسمي الشرعي، وهو‏:‏ أن تكون التسمية شرعية، وهي المباحة‏.‏ فأما التسمية المحظورة إما لجنسها؛ كالخمر، والخنزير‏.‏ وإما لمنفعة محرمة في العين؛ كالعنب لمن يعصره خمرًا، أو الغلام لمن يفجر به‏.‏ وإما لكونه تسمية مباهاة ورياء لا يقصد أداؤها‏.‏ أو فيها ضرر بأحد المتعاقدين؛ كالمهور التي لا يقصد أداؤها، وهي تضر الزوج إلى أجل، كما يفعله جفاة الأعراب، والحاضرة، ونحو ذلك؛ فإن هذا ليس بتسمية شرعية، فليس هو ميزانًا شرعيا يعتبر به المثل، حيث لا مسمي‏.‏

فتدبر هذا فإنه نافع، خصوصًا في هذه الصدقات الثقيلة المؤخرة، التي قد نهى اللّه عنها ورسوله؛ فإن من الفقهاء من يعتبرها في مثل كون الأيم لا تزوج إلا بمهر مثلها، فيري ترك ما نهي اللّه عنه خلافًا للشريعة؛ بناء على أنه مهر المثل، حتي في مثل تزويج الأب ونحوه، فهذا أصل‏.‏‏.‏‏.‏

إذا عرف ذلك فرغبة الناس كثيرة الاختلاف والتنوع، فإنها / تختلف بكثرة المطلوب وقلته‏.‏ فعند قلته يرغب فيه ما لا يرغب فيه عند الكثرة‏.‏ وبكثرة الطلاب وقلتهم؛ فإن ما كثر طالبوه يرتفع ثمنه، بخلاف ما قل طالبوه‏.‏ وبحسب قلة الحاجة وكثرتها وقوتها وضعفها، فعند كثرة الحاجة وقوتها ترتفع القيمة ما لا ترتفع عند قلتها وضعفها‏.‏ وبحسب المعاوض‏.‏ فإن كان مليا، دينا‏:‏ يرغب في معاوضته بالثمن القليل، الذي لا يبذل بمثله لمن يظن عجزه أو مطله أو جحده‏.‏ والملي المطلق عندنا‏:‏ هو الملي بماله، وقوله، وبدنه‏.‏ هكذا نص أحمد‏.‏

وهذا المعنى، وإن كان الفقهاء قد اعتبروه في مهر المثل، فهو يعتبر أيضا في ثمن المثل، وأجرة المثل‏.‏

وبحسب العوض فقد يرخص فيه إذا كان بنقد رائج ما لا يرخص فيه إذا كان بنقد آخر دونه في الرواج؛ كالدراهم، والدنانير بدمشق في هذه الأوقات؛ فإن المعاوضة بالدراهم هو المعتاد‏.‏

وذلك أن المطلوب من العقود هو التقابض من الطرفين، فإذا كان الباذل قادرًا على التسليم، موفيا بالعهد، كان حصول المقصود بالعقد معه؛ بخلاف ما إذا لم يكن تام القدرة أو تام الوفاء‏.‏ ومراتب القدرة والوفاء تختلف، وهو الخير المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ ، قالوا‏:‏ قوة على الكسب، ووفاء للعهد‏.‏

/ وهذا يكون في البائع وفي المشتري، وفي المؤجر، والمستأجر، والناكح والمنكوحة؛ فإن المبيع قد يكون حاضرًا، وقد يكون غائبًا، فسعر الحاضر أقل من سعر الغائب، وكذلك المشتري قد يكون قادرًا في الحال على الأداء؛ لأن معه مالا، وقد لا يكون معه لكنه يريد أن يقترض أو يبيع السلعة، فالثمن مع الأول أخف‏.‏

وكذلك المؤجر قد يكون قادرًا على تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بحيث يستوفيها المستأجر بلا كلفة، وقد لا يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة إلا بكلفة؛ كالقري التي ينتابها الظلمة من ذي سلطان أو لصوص، أو تنتابها السباع، فليست قيمتها كقيمة الأرض التي لا تحتاج إلى ذلك، بل من العقار ما لا يمكن أن يستوفي منفعته إلا ذو قدرة يدفع الضرر من منفعته لأعوانه وأنصاره، أو يستوفي غيره منه منفعة يسيرة، وذو القدرة يستوفي كمال منفعته لدفع الضرر عنه‏.‏

وعلى هذا يختلف الانتفاع بالمستأجر، بل والمشتري، والمنكوح، وغير ذلك‏.‏ فينتفع به ذو القدرة أضعاف ما ينتفع به غيره؛ لقدرته على جلب الأسباب التي بها يكثر الانتفاع، وعلى دفع الموانع المانعة من الانتفاع، فإذا كان كذلك لم يكن كثرة الانتفاع بما أقامه من الأسباب ودفعه من الموانع موجبًا لأن يدخل ذلك التقويم، إلا إذا فرض مثله، فقد تكون الأرض تساوي أجرة قليلة لوجود الموانع من المعتدين، أو السباع، أو لاحتياج استيفاء المنفعة إلى قوة ومال‏.‏

/

 وسئل عن رجل له عند رجل مائة وثمانون، فقال له رجل‏:‏ تبيعها بمائة وخمسين، فهل يجوز ذلك ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إن كانت مؤجلة فباعها بأقل منها حالة، فهذا ربًا، وإن كانت حالة فأخذ البعض، وأبرأه من البعض، فأجره على اللّه، وقد أحسن‏.‏

 وسئل عن دَيْن سلم حل، فلم يكن عند المستسلف وفاء، فقال‏:‏ بعنيه بزيادة على الثمن الأول ‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز بيع دين السلم قبل قبضه، ولا بيع الدين بالدين، فهذا حرام من وجهين‏.‏ ومن وجه ثالث‏:‏ أنه إن كان باعه الدراهم بالدراهم؛ مثل من باع ربًا نسيئة لم يجز أن يعتاض عن ثمنه / بما لا يباع به نسيئة، كذلك من اشتري دينًا بنسيئة لم يجز أن يعتاض عنه بما لا يباع بثمنه نسيئة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن الرجل يتدين، ثم يعسر ويموت، هل يطالب به ‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم يستوفيه صاحبه، فإن الدين لابد من وفائه؛ ولهذا ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدَّيْن‏)‏‏.‏

/

 باب القرض

 سُئِلَ شيخُ الإِسلام عن رجل أقرض لرجل ألف درهم، فطالبه، فقال‏:‏ أنا معسر، أنا أشتري منك صنفا بزائد إلى أن تصبر ستة شهور، فهل يجوز ذلك ‏؟‏

فأجاب‏:‏

قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحل سلف وبيع‏)‏، فإذا باعه وأقرضه كان ذلك مما حرمه اللّه ورسوله‏.‏ وكلاهما يستحق التعزير، إذا كان قد بلغه النهي، ويجب رد القرض والسلعة إلى صاحبها، فإذا تعذر ذلك لم يكن له إلا بدل القرض، وإلا بدل السلعة قيمة المثل، ولا يستحق الزيادة على ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 وسئل عن إنسان يريد أن يأخذ من إنسان دراهم قرضًا يعمر بها ملكه‏.‏ يشتري بها أرضا إلى مدة سنة، وبلا كسب ما يعطي أحد ماله، فكيف العمل في مكسبه حتي يكون بطريق الحل ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، له طريق بأن يكري الملك أو بعضه، يتسلفها ويعمر بالأجـرة‏.‏ وإذا كان بعض الملك خرابًا، واشترط على المستأجر عمارة موصوفة جاز ذلك، فهذا طريق شرعي، يحصل به مقصود هذا، وهذا‏.‏

وأما إذا تواطآ على أن يعطيه دراهم بدراهم إلى أجل، وتحيلا على ذلك ببعض الطرق، لم يبارك اللّه لا لهذا، ولا لهذا؛ مثل أن يبيعه بعض الملك بيع أمانة، على أنه يشتري منه الملك فيما بعد بأكثر من الثمن، فهذا من الربا الذي حرمه اللّه ورسوله‏.‏

وإن كان عند المعطي سلعة يحتاج اليها الآخذ كرضاض يعمر به الحمام، جاز أن يشتري السلعة إلى أجل، بما يتفقان عليه من الربح، لكن لا ينبغي للبائع أن يربح على المشتري إلا ما جرت به العادة في مثل ذلك‏.‏

/

 وسئل عمن أقرض رجلا قرضًا وامتنع أن يوفيه إياه، إلا في بلد آخر يحتاج فيه المقرض إلى سفر وحمل، فهل عليه كلفة سفره‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجب على المقترض أن يوفي المقرض في البلد الذي اقترض فيه، ولا يكلفه شيئًا من مؤنة السفر والحمل‏.‏ فإن قال‏:‏ ما أوفيك إلا في بلد آخر غير هذا، كان عليه ضمان ما ينفقه بالمعروف‏.‏

 وسئل عما إذا أقرض رجل رجلا دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر، فهل يجوز ذلك ‏؟‏ أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر؛ مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه، ويكتب له ‏[‏سفتجة‏]‏ أي‏:‏ ورقة، إلى بلد المقترض، فهذا يصح في /أحد قولي العلماء‏.‏

وقيل‏:‏ نهى عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربًا، والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأي النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضًا بالوفاء في ذلك البلد،وأمن خطر الطريق، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهي عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهي عما يضرهم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏ هل يجوز قرض الدراهم المغشوشة، ويأخذها عددًا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز قرض الدراهم المغشوشة، إذا كانت متساوية الغش، مثل دراهم الناس التي يتعاملون بها‏.‏ وكذلك إذا كان الغش متفاوتًا يسيرًا، فالصحيح أنه يجوز قرضها بالدراهم التي يقال عيارها سبعون، وعيار غيرها تسعة وستون‏.‏

والصحيح أنه يجوز قرض الحنطة وغيرها من الحبوب، وإن كانت مغشوشة بالتراب والشعير، فإن ‏[‏باب القرض‏]‏ أسهل من ‏[‏باب البيع‏]‏ ‏.‏ ولهذا يجوز على الصحيح قرض الخبز عددًا وقرض الخمير، / وإن كان لا يجوز عددًا‏.‏ ويجوز في القرض أن يرد خيرًا مما اقترض بغير شرط، كما استلف النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا ورد خيرًا منه‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏خير الناس أحسنهم قضاء‏)‏‏.‏

وكذلك يجوز قرض البيض ونحوه من المعدودات، في أصح قولي العلماء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض حيوانًا، والحيوان أكثر اختلافًا من البيض‏.‏

 وسئل عن جندي له إقطاع، ويجيء إلى عند فلاحيه فيطعموه، هل يأكل ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أكل وأعطاهم عوض ما أكل فلا بأس‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن معلم له دين عند صانع يستعمله لأجله، يأكل من أجرته‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز للأستاذ أن ينقص الصانع من أجرة مثله؛ لأجل ما له عنده من القرض، فإن فعل ذلك برضاه كان مرابيًا ظالمًا عاصيًا مستحقًا للتعزير، وليس له أن يعسفه في اقتضاء دينه‏.‏

/

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل له إقطاع أرض يعمل له أربعمائة إردب، فأعطي الفلاحين قوة تقارب مائتي إردب، فيسجلوه بسبعمائة درهم، فهل ذلك ربا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، كل قرض جر منفعة فهو ربا؛ مثل أن يبايعه أو يؤاجره، ويحابيه في المبايعة والمؤاجرة لأجل قرضه، قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يحل سلف وبيع‏)‏‏.‏

فإنه إذا أقرضه مائة درهم وباعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين كانت تلك الزيادة ربا‏.‏ وكذلك إذا أقرضه مائة درهم، واستأجره بدرهمين كل يوم، أجرته تساوي ثلاثة‏.‏ بل ما يصنع كثير من المعلمين بصنائعهم يقرضونهم ليحابوهم في الأجرة، فهو ربًا‏.‏

وكذلك إذا كانت الأرض أو الدار أو الحانوت تساوي أجرتها مائة درهم، فأكراها بمائة وخمسين؛ لأجل المائة التي أقرضها إياه، فهو ربا‏.‏

وأما ‏[‏القوة‏]‏ فليست قرضًا محضًا؛ فإنه يشترط عليه فيها أن / يبذرها في الأرض، وإن كان عاملا، وإن كان مستأجرًا، فكأنه أجره أرضا يقويها بالأجرة المسماة، فإذا انقضت الإجارة استرجع الأرض، ونظيره القوة‏.‏ وهذا فيه نزاع بين العلماء‏.‏

منهم من يقول‏:‏ المنفعة هنا مشتركة بين المقرض والمقْرِض؛ فإن المقْرَض له غرض في عمارة أرضه مثل ‏[‏السفتجة‏]‏ وهو أن يقرضه ببلد ليستوفي في بلد آخر، فيربح المقرض خطر الطريق، ومؤونة الحمل، ويربح المقترض منفعة الاقتراض‏.‏

وكذلك ‏[‏القوة‏]‏ ليس مقصود المقوي يأخذ زيادة على قوته، بل محتاج إلى إجارة أرضه، وذلك محتاج إلى استئجارها، فلا تتم مصلحتها إلا بقوة من المؤجر لحاجة المستأجر‏.‏ وفي التحقيق ليس المقصود بالقوة القرض بل تقويته بالبذر، كما لو قواه بالبقر‏.‏

ومنهم من يجعله من باب القرض الذي يجر منفعة، إنما القوة من تمام منفعة الأرض، كما لو كان مع الأرض بقر ليحرث عليها، فيكون قد أجر أرضًا وبقرًا، فهذا جائز بلا ريب، ولكن القوة نفسها لا تبقي، ولكن يرجع في نظيرها، ما يرجع في المضاربة في نظير رأس المال‏.‏ فلهذا منع من منع من العلماء من ذلك؛ لأن الإجارة ترجع نفس العين فيها إلى المؤجر، والمستأجر قد استوفي المنفعة‏.‏ ومثل هذا لا يجور في / القرض، فإنه لا يجب فيه إلا رد المثل بلا زيادة‏.‏

ولو أجره حنطة أو نحوها لينتفع بها، ثم يرد اليه مثلها مع الأجرة، فهذا هو القرض المشروط فيه زيادة على المثل‏.‏ وهذا النزاع إذا أكراه بقيمة المثل، وأقرضه القوة ونحوها مما يستعين به المكتري،كما لو أكراه حانوتًا ليعمل فيه صناعة أو تجارة، وأقرضه ما يقيم به صناعته، أو تجارته‏.‏

فأما إن أكراه بأكثر من قيمة المثل لأجل القرض، فهذا لا خير فيه، بل هو القرض الذي يجر الربا‏.‏

/

 

باب الرهن

 

سئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل أرهن داره عند رجل على مال إلى أجل، فحل الأجل، وهو عاجز، فقال المرتهن‏:‏ يعني الدار بشرط إن وفيتني أخذتها بالثمن وإن سكنتها لم آخذ منك أجرة، فهل البيع صحيح ‏؟‏ وقد عمر المشتري فوقها بناء، فما حكمه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس هذا بيعا صحيحًا، بل تعاد الدار إلى صاحبها، ويوفي الدين المستحق، والعمارة التي عمرها المشتري تحسب له‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل له نصف بستان، والباقي لرجل آخر، واستعار من شريكه نصفه ليرهنه بدين إلى أجل، وعرفه مقدار الدين والأجل فأعاره، ورهن البستان عند صاحب الدين، ثم إنه فك نصيبه وباعه لصاحب الدين بثمن معلوم، وتقاصا، فهل له ذلك‏؟‏ وهل يبقي نصيب المعير مرهونًا على باقي الدين ‏؟‏ أم له الرجوع في كل وقت ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، نعم يجوز للمدين أن يبيع نصيبه لوفاء دينه، كما ذكروا، وإذا باعه وكان مما تجب فيه الشفعة فللشريك أخذه بالشفعة‏.‏

وأما نصيب / المعير فيبقي مرهونًا على باقي الدين، كما كان قبل ذلك، وليس للمعير الرجوع في مثل هذه العارية؛ لتعلق حق المرتهن بها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل عنده رهن على مبلغ إلى مدة معلومة، فلما انقضي الأجل دفع إلى رب الدين حقه إلا مائة، ثم قطعت القبالة الأولي، وكتب بالمائة درهم حجة، ولم يعاد فيه ذكر الرهن، فهل لهذه المائة الباقية بالرهن المذكور تعلق ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أوفي الغريم بعض الدين، وبقي بعضه، فالرهن باق بما بقي من الحق، إلا أن يحصل ما يوجب فكاكه؛ مثل فك المرتهن له، ونحو ذلك‏.‏

/

 

وسئل عن رجل أرهن داره ثم أشهد على نفسه، أنه عوض امرأته بالدار عن حقها من مدة عشر سنين، فهل يبطل الرهن‏؟‏ وهل يجوز للمرتهن أن يؤجر الدار ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، لا يقبل إقرار الراهن بما يبطل الرهن، وإن قيل‏:‏ إنه إذا أقر بالرهن فللمقر له أن يطلبه بموجب إقراره بلا ريب، لأنه إذا أقر أن الرهن كان ملكا لغيره، وأنه رهنه بدون إذنه لم يبطل الرهن بمجرد ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عمن له على شخص دين، وأرهن عليه رهنًا، والدين حال، ورب الدين محتاج إلى دراهمه، فهل يجوز له بيع الرهن ‏؟‏ أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان أذن له في بيعه جاز، وإلا باع الحاكم إن أمكن، ووفاه حقه منه‏.‏ ومن العلماء من يقول‏:‏ إذا تعذر ذلك دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، ويستوفي حقه منه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 

وسئل عن رجل أمر أجيره أن يرهن شيئا عند شخص، فرهنه عند غيره، فعدم الرهن، فحلف صاحب الرهن إن لم يأته به لم يستعمله، معتقدًا أنه لم يعدم، ثم تبين له عدمه، فهل يحنث إذا استعمله ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا كان حين حلف معتقدًا أن الرهن باق بعينه لم يعدم، فحلف ليحضره لم يحنث والحالة هذه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رهن عند رجل على مبلغ إلى مدة، وقد انقضت المدة، ثم إنه أرهنه بإذن مالكه على المبلغ عند إنسان آخر، وقد طلب الراهن الثاني ما على الرهن، وحبس لأجله، ولم يكن له ما يستفكه، فهل يجوز بيعه ‏؟‏ أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم يجوز بيع الرهن لاستيفاء الحق منه والحالة هذه، لا سيما وقد أذن الراهن الأول في الرهن على الدين، فيجوز بيعه/ حينئذ لاستيفاء هذا الحق منه، فإذا أمكن بيعه واستيفاء الحق منه لم يجز حبس الغريم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن امرأة أسرت ولها ملك وزوج وأخ، فأرهنوا ملكها على دراهم لأجل فكاكها، وراح أخوها بالدراهم في طلبها، فوجدها حصلت بلا ثمن، فرجعت إلى بلدها، وتخلف أخوها في حوائجه، فلما وصلت ووجدت ملكها مرهونًا على الدراهم، فقالت‏:‏ يرهن مالي بغير أمري‏؟‏ وأنكرت أن أخاها سلم اليها شيئا من الدراهم، فهل يلزمها الرهن‏؟‏ أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا شيء عليهم والحالة هذه، بل يعاد اليها ما قبضه أخوها، ويفك الرهن على ملكها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل أقرض عمه خمسة آلاف درهم، ثم إن ابن عمه تدين دراهم من ناس آخرين، واشتري خمسة غلمان وجارية، وكتب مكتوبًا أن الخمسة الغلمان دون الجارية رهن عند أصحاب الدين، ثم إنه باع الغلمان وأوصلهما لمن كانوا رهنا عنده، ثم إن صاحب الخمسة آلاف اشتري الجارية بالدين الذي له عليه، فمسكوه أصحاب الدين الذين أخذوا ثمن الغلمان؛ ليأخذوها من دينهم أيضا، فهل لهم ذلك‏؟‏ أم لا ‏؟‏ وهو لم يكن ضامنا، ولا كفيلا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا لم تكن الجارية مرهونة عند أهل الدين الثاني، لم يكن لأهل هذا الدين اختصاص بها دون بقية الغرماء باتفاق المسلمين‏.‏ فكيف يكون إذا كان قد وفاها من الدين الذي لغيرهم؛ فإن العدل في الوفاء بين الغرماء بعد الحجر على المفلس واجب باتفاق الأئمة‏.‏ وأما قبل الحجر ففيه نزاع‏.‏

/

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل له دين على إنسان، فوجد ولده راكبًا على فرس، فأخذ الفرس منه، فحضر المديون إلى صاحب الفرس، فطالبه صاحب الدين بدينه، فقال له‏:‏ خذ هذه الفرس عندك حتي أوفيك دينك، فقال له صاحب الدين‏:‏ لي عندك فضة، مالي عندك فرس، وهذا حيوان، والموت والحياة بيد اللّه سبحانه وتعالى، فقال له المديون‏:‏ أبرأك اللّه من هذه الفضة فمهما حدث كان في دركي، فقعدَتْ عند صاحب الدين أيامًا يعلفها ويسقيها، ولا يركبها، فأسقطت الفرس ميتة، لم تستهل بقضاء اللّه وقدره، فجاء رجل آخر غير المديون ادعي أن الفرس له، وطالب بسقط الفرس‏.‏ فقال صاحب الدين‏:‏ أنا لا أعرفك، ولا لك معي كلام، وأحلف لك أني ما ركبت الفرس، ولا ركبها أحد عندي، ولا ضربتها، فهل يجب على صاحب الدين‏؟‏ أو على الذي أرهن الفرس قيمة السقط، أم لا‏؟‏ وكم يكون قيمة السقط ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا قبضت الفرس من مالكها بغير حق فله ضمان ما نقصت، وهو تفاوت ما بين القيمات، فإن كان المستولي عليها غاصبا متعديا /فقرار الضمان عليه، وإن كان مغرورًا ولم يتلف بسبب منه فقرار الضمان على الأول الذي غره، وضمن له الدرك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل تحت يده رهن على دين، ثم باعه مالكه، فأراد المرتهن أن يثبت عقد الرهن، ويفسخ البيع، فعلى من يدعي ‏؟‏

فأجاب‏:‏

بيع الرهن اللازم بدون إذن المرتهن لا يجوز، وللمرتهن أن يطلب دينه من الراهن المدين إن كان قد حل، وله أن يطلب عود الرهن، أو استيفاء حقه منه‏.‏ وإن شاء طالب البائع له‏.‏ وإن شاء طالب المشتري له، لكن المشتري إن كان مغرورًا فقرار الضمان على البائع، يجب عليه ضمان أجرة المبيع‏.‏ وإن كان عالمًا بصورة الحال فهو ظالم، عليه ضمان المنفعة‏.‏

/

 

وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى ـ عن رجل أرهن حِياصَة فاستعملها المرتهن، فقطع سيرها وعدم طليها ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانت نقصت باستعمال المرتهن، فعليه ضمان ما نقص بالاستعمال، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏